الحداثة
مفهومها ـ نشأتها ـ روادها
مفهوم الحداثة :
قبل أن نخوض في مفهوم الحداثة الاصطلاحي ، نرى من المفيد أن نعرج على مضمونها اللغوي ، فهي مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعني نقيض القديم ، والحداثة أول الأمر وابتداؤه ، وهي الشباب وأول العمر .
وبهذا المفهوم اللغوي سطعت شمس الحداثة في عالمنا العربي المعاصر ، وتوافقت مع ما يحمل عصرنا من عقد نفسية ، وقلق ذاتي من القديم الموروث ، ومحاولة الثورة عليه ، والتخلص منه ، والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق وروح عصر التطور العلمي والمادي ، ويواكب الايدولوجيات الوافد على عالمنا العربي .
أما ما تعنيه الحداثة اصطلاحا فهي : " اتجاه فكري أشد خطورة من
اللبرالية والعلمانية والماركسية ، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تضمن كل هذه المذاهب الفكرية ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني ، والنقد الأدبي ، ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء " ، وهي بهذا المفهوم الاصطلاحي
" اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع " . الحداثة في الأدب المعاصر ـ هل انفض سامرها ، د . محمد مصطفى هدارة ، مجلة الحرس الوطني ربيع الآخر 1410 هـ .
ويقول أحد الباحثين في معرض حديثه عن الحداثة كمنهج فكري يسعى لتغيير الحياة " إن من دعاوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط بغض النظر عما يدعوا إليه ذلك الأدب من أفكار ، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق ، فما دام النص الأدبي عندهم جميلا من الناحية الفنية ، فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمريات أو غير ذلك " عوض القرني ، الحداثة في ميزان الإسلام ص 47 .
ويقول د . عدنان النحوي في كتابه الحداثة من منظور إسلامي ص 13 : " لم تعد لفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ن ولم تعد تحمل في حقيقتها طلاوة التجديد ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جديد ، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعيدا عن حياة المسلمين ن بعيدا عن حقيقة دينهم ، ونهج حياتهم ، وظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن " .
فالحداثة إذن من منظور إسلامي عند كثير من الدعاة تتنافى مع ديننا وأخلاقنا الإسلامية ، وهي معول هدم جاءت لتقضي على كل ما هو إسلامي دينا ولغة وأدبا وتراثا ، وتروج لأفكار ومذاهب هدامة ، بل هي أخطر تلك المذاهب الفكرية ، وأشدها فتكا بقيم المجتمع العربي الإسلامية ومحاولة القضاء عليه والتخلص منه ، وإحلال مجتمع فكري عربي محله يعكس ما في هذه المجتمعات الغربية من حقد وحنق على العالم الإسلامي ، ويروجون بكل اهتمام وجديه من خلال دعاتها ممن يدعون العروبة لهذه المعتقدات والقيم الخبيثة بغرض قتل روح الإسلام ولغته وتراثه .
وتقول الكاتبة سهيلة زين العابدين في مقالة نشرت لها في جريدة الندوة السعودية الغدد 8424 في 14 / 3 / 1407 هـ ص 7 : " الحداثة من أخطر قضايا الشعر العربي المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمرد على كل ما هو ديني وإسلامي وأخلاقي ، فهي ثورة على الدين على التاريخ على الماضي على التراث على اللغة على الأخلاق ، واتخذت من الثورة على الشكل التقليدي للقصيدة الشعرية العربية بروازا تبروز به هذه الصورة الثورية الملحدة " .
ويذكر د . محمد خضر عريف في معرض حديثه عن الحداثة وتعليقه على بعض الدراسات التي صدرت حولها من غير مفكريها وروادها في الوطن العربي في كتابه الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة ص 11 و 12 قائلا : " إننا بصدد فكر هدام يتهدد أمتنا وتراثنا وعقيدتنا وعلمنا وعلومنا وقيمنا ، وكل شيء في حاضرنا وماضينا ومستقبلنا " ، ويفرق الدكتور / خضر عريف في كتابة الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصر فيقول : " والذي يدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بين مصطلح الحداثة ( modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحديث ( modernization ) وجميع تلك المصطلحات كثيرا ما تترجم إلى " الحداثة " على ارعم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكري السليم يتفق مع التحديث ، ولكنه لا يتفق مع الحداثة . وإن يكن مصطلحا modernity و modernization يمكن الجمع بينهما ليعنيا المعاصرة أو التجديد ، فإن مصطلح modernism يختلف عنهما تماما . إذ ينبغي أن نفرق بين مصطلحين أجنبيين ، من المؤسف أن كليهما يترجم ترجمة واحدة وهي ( الحداثة ) أما المصطلح الأول فهو : modernity الذي يعني إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن .
أما الاصطلاح الثاني فهو modernism ويعني مذهبا أدبيا ، بل نظريه فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها ، بل تدعو إلى التمرد على الواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية . . . وهو المصطلح الذي انتقل إلى أدبنا العربي الحديث ، وليس مصطلح modernity الذي يحسن أن نسميه المعاصرة ، لأنه يعني التجديد بوجه عام دون الارتباط بنظرية ترتبط بمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة .
ونحن في تعريفنا لمفهوم الحداثة لا نريد أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، ولكن لا بد أن نتعرف عليه مما قال به أصحابها ومفكروها وسدنتها أيضا . يقول على أحمد سعيد الملقب بأودنيس وهو من رواد الحداثة العربية ومفكريها رابطا بينها وبين الحرية الماسونية : " إن الإنسان حين يحرق المحرم يتساوى بالله " . ثم يتنامى المفهوم الماسوني لكلمة الحرية إلى صيغته التطبيقية الكاملة في قوله " : إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله ، فهذا التساوي يتضمن رفض العالم كما هو ، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا يقف عند حدود هدمه ، ولا يتجاوزها إلى إعادة بنائه ، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه مبدأ العالم القديم ، وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن يهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .
وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : " في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة ، وأشكالا غير مألوفة ، وتكوينات غريبة ، وأقنعة عجيبة ، فيق بعض الناس منبهرا بها ، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها ، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها ، ولكنه يغرق أيضا " محاضرة الحداثة والتراث د . محمد هدارة .
ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كما يصفها بعض الباحثين الغربيين " بأنها زلزلة حضارية عنيفة ، وانقلاب ثقافي شامل ، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها ، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة " .
جذور الحداثة في الغرب
ظهر تيار الحداثة في الغرب نتيجة للمد الطبيعي الذي دخلته أوروبا منذ العصور الوثنية في العهدين اليوناني والروماني ، امتدادا إلى عصر الظلمات ، مرورا بالعصور المتلاحقة التي تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكرية ، والفلسفات الوثنية المتناقضة والمتلاحقة ، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق ، وكل مذهب من هذه المذاهب كان يحمل في ذاته عناصر اندثاره وفنائه .
لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتيارات الفكرية بدءا من اعتناق الوثنية ، وانتهاء بالانفجار الفكري اليائس الذي عرف بالحداثة ، مرورا بالمسيحية وما ترتب عليها من مفاسد الكنيسة وظلمها وظلامها ، وبالطبيعة التي هجرها شعراؤها وكتابها ليعشقوا الواقعية المزيفة التي ما لبثوا أن هجروها هربا إلى الكفر والإلحاد بالله كفرا صريحا جاهرا ، ثم تحولوا بكفرهم حاملينه من بعد يأس على كواهلهم باحثين عن الخلاص الذي ينتشلهم من غرقهم الإلحادي ليجدوا أنفسهم يغوصون في وحول المادية التاريخية ، والجدلية السفسطائية ، غير أنهم لم يجدوا ضالتهم فيما بحثوا عنه فارتدوا هاربين ليلقوا بأنفسهم في أحضان الفن للفن ، ولكنهم لم تستقر لهم حال فتخبطوا خبط عشواء حتى استقر بهم السبيل إلى مهاوي الوجودية التي كشفت عن كل شيء فجعلت الحرية فوضى ، والالتزام تفلتا ، والإيمان بالأشياء كفرا " فلم يعد في حياة الغربي إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارا رهيبا يحطم كل شيء ، يحطم كل قيمة ، لتعلن يأس الإنسان الغربي وفشله في أن يجد أمنا أو أمانا " الحداثة من منظور إيماني ص 17 .
وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكري الرهيب اليائس ، انفجار الإنسان الذي لا يعرف الأمن والأمان في ذاته آلاف السنين .
وقد اختلف كثير من الذين أرخوا ونظروا للحداثة الغربية حول بداياتها الأولى ، وعلى يد من من كتابهم ظهرت ونشأت ، ورغم ذلك يتفق بعضهم على أن إرهاصاتها المبكرة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي " بودلير " الفرنسي صاحب ديوان " أزهار الشر " . ولكنها لم تنشأ من فراغ ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهات الأدبية والايدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا في القرون الخوالي ، والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليه ، وقد ظهر ذلك جليا منذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما انسلخ المجتمع الغربي عن الكنيسة وثار علي سلطاتها الروحية ، التي كانت بالنسبة لهم كابوسا مخيفا ، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحيح ، والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره ، وفكره .[/center]